فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال بعضهم: إن الخطاب فيها للكفار، وذلك أن كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على معانيه ومزاياه فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك عن طلب سائر المعجزات، وأيد هذا بقوله سبحانه وتعالى: في آخر الآية: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بناءً على أن ذلك للترجي وإنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزمًا في قوله تعالى: {وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].
وأجيب بأن هذه الرحمة المرجوة غير تلك الرحمة، ولئن سلم كونها إياها فالإطماع من الكريم واجب فلم يبق فرق، وفي بناء الفعل للمفعول إشارة إلى أن مدار الأمر القراءة من أي قارئ كان.
وفي الآية من الدلالة على تعظيم شأن القرآن ما لا يخفى.
ومن هنا قال بعض الأصحاب: يستحب لمريد قراءته خارج الصلاة أن يلبس أحسن ثيابه ويتعمم ويستقبل القبلة تعظيمًا له، ومثله في ذلك العلم، ولو قرأ مضطجعًا فلا بأس إذ هو نوع من الذكر.
وقد مدح سبحانه ذاكريه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم وضم رجليه عند القراءة ولا يمدها لأنه سوء أدب ولو قرأ ماشيًا أو عند النسج ونحوه من الأعمال فإن كان القلب حاضرًا غير مشتغل لم يكره وإلا كره، ولا يقرأ وهو مكشوف العورة أو كان بحضرته من هو كذلك.
وإن كانت زوجته، وكره بعضهم القراءة في الحمام والطريق.
قال النووي: ومذهبنا لا تكره فيهما، وتكره في الحش وبيت الرحى وهي تدور عند الشعبي وهو مقتضى مذهبنا، والكلام في آداب القراءة وما ينبغي للقارئ طويل.
وفي الإتقان قدر له قدر من ذلك فإن كان عندك فارجع إليه.
والجملة على ما يدل عليه كلامهم يحتمل أن تكون من القول المأمور به ويحتمل أن تكون استئنافًا من جهته تعالى، قيل: وعلى الأول فقوله سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)}.
{واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} عطف على {قل} وعلى الثاني فيه تجريد الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عام لكل ذكر فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب من القبول. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَإِذَا قرئ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ} أي: عن حديث النفس وغيره {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة، أرشد إلى طريق الفوز بما انطوى عليه من منافعه الجليلة.
أي: وإذا قرئ القرآن الذي ذكرت خصائصه، فاستمعوا له، أي: أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه، وتتدبروا مواعظه، وأنصتوا لقراءته حتى تنقضي، إعظامًا له واحترامًا، لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أعظم ثمراته، لا كما يعتمده كفار قريش من قولهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}.
تنبيهات:
الأول: ظاهر الآية يقتضي وجوب الإستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وعليه أهل الظاهر، وهو قول الحسن البصري، وأبي مسلم الأصفهاني روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا». وكذا رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة.
وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: «هل قرأ أحد منكم معي آنفًا»؟ قال رجل: نعم يا رسول الله. قال: «إني أقول: ما لي أنازع القرآن»؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الترمذي: هذا حديث حسن. وصححه أبو الرازي.
نعم وردت السنة الصحيحة باستثناء الفاتحة وحدها للمأموم. وذلك فيما رواه عبادة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: «إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم»؟ قال: قلنا: يا رسول الله! إي والله. قال: «لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها»- رواه أبو داود والترمذي-.
وفي لفظ: «فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت به، إلا بأم القرآن». رواه أبو داود والنسائي، والدارقطني وقال: رواته كلهم ثقات.
وأخرج ابن حبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتقرءون في صلاتكم خلف الإمام، والإمام يقرأ؟ فلا تفعلوا، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه».
وأما حديث أبي هريرة المتقدم، فلا يستدل به على عدم قراءة المأموم مطلقًا بل جهرًا، لأن المنازعة إنما تكون مع جهر المأموم، لا مع إسراره، ولو سلم دخول ذلك في المنازعة لكان الإستفهام الإنكاري فيه عامًّا لجميع القرآن، أو مطلقًا في جميعه.
وحديث عبادة خاص أو مقيد، ولا تعارض بين عام وخاص، أو مطلق ومقيد، لابتناء الأول على الثاني.
وكذا يقال في عموم الآية، وفي هذا جمع بين دلالة الكتاب، وصحيح السنة، إذ جاءنا بها من جاء بالقرآن.
الثاني: روي عن كثير من السلف أن الآية نزلت في الصلاة. وعن بعضهم: فيها وفي الخطبة يوم الجمعة، وعن بعضهم: فيهما وفي خطبة الأضحى والفطر.
وقد قدمنا في مقدمة الكتاب مصطلح السلف في قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، وبيّنّا أنه قد يراد بذلك، أن الآية تشمل ذلك الشيء لدخوله في عمومها، لا أنه سبب لنزولها، وذلك في بعض المقامات، وما هنا منه.
وبتحقيق هذا يسقط ما للرازي هنا من أنه إذا قيل بنزولها في منع المأموم من الجهر بالقراءة، يذهب تناسب الآية مع ما قبلها من إفحام المشركين، بأن يستمعوا لقراءته، ليقفوا على إعجازه. وما للخازن، بأن الآية مكية، وخطبة الجمعة والعيدين شرعتا بالمدينة- فافهمه.
الثالث: روى الأمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استمع إلى آية من كتاب الله، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورًا يوم القيامة».
قال ابن كثير: تفرد به الإمام أحمد رحمه الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}.
يؤذن العطف بأن الخطاب بالأمر في قوله: {فاستمعوا وأنصتوا} وفي قوله: {لعلكم} تابع للخطاب في قوله: {هذا بصائر من ربكم} [الأعراف: 203] إلخ، فقوله: {وإذا قرئ القرآن} من جملة ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله لهم وذلك إعادة تذكير للمشركين تصريحًا أو تعريضًا بأن لا يعرضوا عن استماع القرآن وبأن يتأملوه ليعلموا أنه آية عظيمة، وأنه بصائر وهدى ورحمة، لمن يؤمن به ولا يعاند، وقد علم من أحوال المشركين أنهم كانوا يتناهون عن الإنصات إلى القرآن {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 26].
وذكرُ اسم القرآن إظهارٌ في مقام الإضمار، لأن القرآن تقدم ذكره بواسطة اسم الإشارة فنكتة هذا الإظهار: التنويه بهذا الأمر، وجعل جملته مستقلة بالدلالة غير متوقفة على غيرها، وهذا من وجوه الاهتمام بالكلام ومن دواعي الإظهارِ في مقام الإضمار استقريتة من كلام البلغاء.
والاستماع الإصغاء وصيغة الافتعال دالة على المبالغة في الفعل، والإنصات الاستماع مع ترك الكلام فهذا مؤكد {لا تسمعوا}.
مع زيادة معنى.
وذلك مقابل قولهم: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} [فصلت: 26]، ويجوز أن يكون الاستماع مستعملًا في معناه المجازي، وهو الامتثال للعمل بما فيه كما تقدم آنفًا في قوله: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا} [الأعراف: 198] ويكون الإنصات جامعًا لمعنى الإصغاء وترك اللغو.
وهذا الخطاب شامل للكفار على وجه التبليغ، وللمسلمين على وجه الارشاد لأنهم أرجى للانتفاع بهديه لأن قبله قوله: {وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [الأعراف: 203].
ولا شبهة في أن هذه الآية نزلت في جملة الآيات التي قبلها وعلى مناسبتها، سواء أريد بضمير الخطاب بها المشركون والمسلمون معًا، أم أريد المسلمون تصريحًا والمشركون تعريضًا، أم أريد المشركون للاهتداء والمسلمون بالأحرى لزيادته.
فالاستماع والإنصات المأمور بهما هما المؤديان بالسامع إلى النظر والاستدلال، والاهتداء بما يحتوي عليه القرآن من الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المقضي إلى الإيمان به، ولما جاء به من إصلاح النفوس، فالأمر بالاستماع مقصود به التبليغ واستدعاء النظر والعملُ بما فيه، فالاستماع والإنصاتُ مراتب بحسب مراتب المستمعين.
فهذه الآية مجملة في معنى الاستماع والإنصات وفي مقتضى الأمر من قوله: {فاستمعوا له وأنصتوا}، يُبين بعضَ إجمالها سياقُ الكلام والحملُ على ما يفسر سببها من قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه} [فصلت: 26]، ويُحال بيان مجملها فيما زادَ على ذلك على أدلة أخرى.
وقد اتفق علماء الأمة على أن ظاهر الآية بمجرده في صور كثيرة مؤول، فلا يقول أحد منهم بأنه يجب على كل مسلم إذا سمع أحدًا يقرأ القرآن أن يشتغل بالاستماع ويُنصت، إذ قد يكون القارئ يقرأ بمحضر صانع في صنعته فلو وجب عليه الاستماع لأمر بترك عمله، ولكنهم اختلفوا في محمل تأويلها: فمنهم من خصها بسبب رأوا أنه سبب نزولها، فرووا عن أبي هريرة أنها نزلت في قراءة الإمام في الجهر، وروى بعضهم أن رجلًا من الأنصار صلى وراء النبي صلى الله عليه وسلم صلاة جهرية فكان يقرأ في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فنزلت هذه الآية في أمر الناس بالاستماع لقراءة الإمام.
وهؤلاء قصروا أمر الاستماع على قراءة خاصة دل عليها سبب النزول عندهم على نحو يقرب من تخصيص العام بخصوص سببه، عند من يخصص به، وهذا تأويل ضعيف، لأن نزول الآية على هذا السبب لم يصح، ولا هو مما يساعد عليه نظم الآية التي معها، وما قالوه في ذلك إنما هو تفسير وتأويل وليس فيه شيء مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من أبقى أمر الاستماع على إطلاقه القريب من العموم، ولكنهم تأولوه على أمرِ الندب، وهذا الذي يؤخذ من كلام فقهاء المالكية، ولو قالوا المراد من قوله قرئ قراءة خاصة، وهي أن يقرأه الرسول عليه الصلاة والسلام على الناس لعلْم ما فيه والعمل به للكافر والمسلم، لكان أحسن تأويلًا.
وفي تفسير القرطبي عن سعيد بن المسيب: كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى فيقول بعضهم لبعض لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل الله تعالى جوابًا لهم {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}.
على أن ما تقدم من الاخبار في محمل سبب نزول هذه الآية لا يستقيم لأن الآية مكية وتلك الحوادث حدثت في المدينة.
أما استدلال أصحاب أبي حنيفة على ترك قراءة المأموم إذا كان الإمام مُسرًا بالقراءة، فالآية بمعزل عنه إذ لا يتحقق في ذلك الترك معنى الإنصات.
ويجب التنبه إلى أن ليس في الآية صيغة من صيغ العموم لأن الذي فيها فعلان هما {قرئ} و{استمعوا} والفعل لا عموم له في الإثبات.
ومعنى الشرط المستفاد من إذا يقتضي إلا عموم الأحوال أو الأزمان دون القراءات وعموم الأزمان أو الأحواللِ لا يستلزم عموم الأشخاص بخلاف العكس كما هو بين. اهـ.